ماضي العرب
يتميز الماضي العربي بأن فيه الكثير من ملامح العزة، والكبرياء، والشموخ، والزهو، وأيضاً فيه عراقة تليدة، وبما أنّ الشعر ديوانُ العرب ومرآة تعكس ما يعيشونه وما يعتقدونه من مبادئ وأفكار، فإننا نقرأ في شعر الأجداد أبياتاً تدلّ على ارتقاء أنفسهم، وسمو أخلاقهم، وسعيهم الدؤوب نحو العُلا. وهذا ما نجده بارزاً مشرئباً في بيتين لأبي فراس الحمداني، ذلك الشاعر الفارسُ الذي ذاق مرارة الأَسر فأحسّ بأنّ أنَفته أصابَها شيءٌ مِن الانكسار؛ ولذلك راحَت قريحتَهُ الشعرية تتدفَّقُ وتنسابُ منها قصائدُ خالدةٌ أُطلقَ عليها اسم "الرُّوميات"؛ لأنه أُسِرَ من قِبل الروم، ومنها قوله:
ونحنُ أناسٌ لا توسُّط بينَنا لنا الصَّدرُ دونَ العالمِين أو القبرُ
تهونُ علينا في المَعالي نفوسُنا ومَن يَخطبِ الحسناءَ لمْ يُغلِها المَهرُ
فحريٌّ بالإنسانِ أنْ يبذلَ أقصى جهده لبلوغ الأهداف السّامية، والوصول إلى أعلى المراتب، فإمّا التَّربُّع على القمة، وإمّا الموتُ في سبيلِ ذلك، ولا يوجد حلٌ وسطيٌّ؛ لأنَّ ذلك يَحطُّ مِن قدر المرءِ، وإذا أردنا أن نجعل من هذين البيتَين منهجاً وطريقاً لنا فهذا ممكن لِما فيهما من حكمة بالغة ومعنىً سديد، فمِن أجل العلياء ترخصُ النفوس وتُدفع الأثمان الباهظة، فمن كان مستعدَّاً لذلك فليتقدَّم، ومن خارَ وجَبُنَ وتقاعس تأخَّر وتاهَ وضاع بين طيّات الحياة وتقلُّباتها، ولم يتلمَّسْ طريق الهدى والصواب، وعاش متخبِّطاً يجتَرُّ كما تجترُّ البهائم، فبحر الحياة ليس هادئاً وأمواجُه لا تُسلِم قيادَها للضّعيف والمُتخاذل، بل للرُّبان الشُجاع صاحب النّفس الشّجاعة والقلب الجَسور الذي لا يهاب الأخطار مهما بلغَت خطورتُها، ويَحضُرني هنا قول الشّاعر التّونسيّ الذي اختطفَهُ الموتُ باكراً في رَيعانِ شبابِه "أبو القاسم الشّابيّ" لكنّه تركَ تراثاً أدبيَّاً خالداً، فأبياتُه تنبضُ بالحياة والتّوثُّب وعدم الرّضا بما مَنحتْه الأيّام:
ومَن يتهيّبْ صُعود الجبال يعيشْ أبدَ الدّهر بينَ الحُفر.
0 تعليقات